كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْجِرَاحَةَ مُرَادَةُ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِعْرَاضِ أَنَّهُ: «إنْ خَزَقَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِنْ أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ» وَمَتَى وَجَدْنَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا يُوَاطِئُ مَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَجَبَ حَمْلُ مُرَادِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} قَدْ قِيلَ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَلِّبَ هُوَ صَاحِبُ الْكَلْبِ الَّذِي يُعَلِّمُهُ الصَّيْدَ وَيُؤَدِّبُهُ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مُضِرِّينَ عَلَى الصَّيْدِ كَمَا تُضَرَّى الْكِلَابُ؛ وَالتَّكْلِيبُ هُوَ التَّضْرِيَةُ يُقَال: كَلْبٌ كَلِبٌ إذَا ضَرَّى بِالنَّاسِ.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {مُكَلِّبِينَ} تَخْصِيصٌ لِلْكِلَابِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْجَوَارِحِ؛ إذْ كَانَتْ التَّضْرِيَةُ عَامَّةً فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بِهِ تَأْدِيبَ الْكَلْبِ وَتَعْلِيمَهُ كَانَ ذَلِكَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْجَوَارِحِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَا قَتَلْته الْجَوَارِحُ غَيْرَ الْكَلْبِ، فَرَوَى مَرْوَانُ الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: «الصَّقْرُ وَالْبَازِي مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ».
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ لَيْثٍ قَالَ: سُئِلَ مُجَاهِدٌ عَنْ الْبَازِي وَالْفَهْدِ وَمَا يُصَادُ بِهِ مِنْ السِّبَاعِ، فَقَالَ: «هَذِهِ كُلُّهَا جَوَارِحُ».
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قَالَ: «الطَّيْرُ وَالْكِلَابُ».
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قَالَ: «الْجَوَارِحُ الْكِلَابُ وَمَا تُعَلَّمُ مِنْ الْبُزَاةِ وَالْفُهُودِ».
وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} قَالَ: «الصَّقْرُ وَالْبَازِي وَالْفَهْدُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ».
وَرَوَى صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَجَدْت فِي كِتَابٍ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: «لَا يَصْلُحُ أَكْلُ مَا قَتَلْته الْبُزَاةُ».
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «فَأَمَّا مَا صَادَ مِنْ الطَّيْرِ الْبُزَاةُ وَغَيْرُهَا فَمَا أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَذَكَّيْته فَهُوَ لَك وَإِلَّا فَلَا تُطْعَمْهُ».
وَرَوَى سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَلِيًّا كَرِهَ مَا قَتَلَتْ الصُّقُورُ.
وَرَوَى أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ صَيْدَ الطَّيْرِ وَيَقُولُ: {مُكَلِّبِينَ} إنَّمَا هِيَ الْكِلَابُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: {مُكَلِّبِينَ} عَلَى الْكِلَابِ خَاصَّةً، وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكِلَابِ وَغَيْرِهَا؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} شَامِلٌ لِلطَّيْرِ وَالْكِلَابِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: {مُكَلِّبِينَ} مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكِلَابَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْجَوَارِحِ وَالْكِلَابِ مِنْهَا، وَيَكُونَ قَوْلُهُ: {مُكَلِّبِينَ} بِمَعْنَى مُؤَدِّبِينَ أَوْ مُضِرِّينَ، وَلَا يُخَصَّصُ ذَلِكَ بِالْكِلَابِ دُونَ غَيْرِهَا؛ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنْ لَا يُخَصَّصَ بِالِاحْتِمَالِ.
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي إبَاحَةِ صَيْدِ الطَّيْرِ وَإِنْ قَتَلَ وَأَنَّهُ كَصَيْدِ الْكَلْبِ؛ قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: «مَا عَلَّمْت مِنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ وَذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ صَيْدُهُ».
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْهَدُ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ؛ لِأَنَّهُ أَبَاحَ صَيْدَ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ مَا يَجْرَحُ بِنَابٍ أَوْ بِمِخْلَبٍ وَعَلَى مَا يَكْسِبُ عَلَى أَهْلِهِ بِالِاصْطِيَادِ لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ إبَاحَةِ صَيْدِ هَذِهِ الْجَوَارِحِ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً وَأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَلَّمَةً فَقَتَلَتْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ خَرَجَ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِينَ عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الصَّيْدِ، فَأَطْلَقَ لَهُمْ إبَاحَةَ صَيْدِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ مَا شَمِلَتْهُ الْإِبَاحَةُ وَانْتَظَمَهُ الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ وَقَعَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِنْ الصَّيْدِ فَخُصَّ الْجَوَابُ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَةُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ}، فَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ وَسَعْدٍ أَنَّ تَعْلِيمَهُ أَنْ يُضَرَّى عَلَى الصَّيْدِ وَيَعُودَ إلَى إلْفِ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ وَلَا يَهْرُبَ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَلَمْ يَشْرِطُوا فِيهِ تَرْكَ الْأَكْلِ.
وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيمِ الْكَلْبِ، وَأَنَّ مِنْ شَرْطِ إبَاحَةِ صَيْدِهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ لَمْ يُؤْكَلْ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَقَالُوا جَمِيعًا فِي صَيْدِ الْبَازِي إنَّهُ يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؛ وَإِنَّمَا تَعْلِيمُهُ أَنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبَك.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: «إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ، وَيُؤْكَلُ صَيْدُ الْبَازِي وَإِنْ أَكَلَ» وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: «يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «لَا يُؤْكَلُ إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ وَالْبَازِي مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اتَّفَقَ السَّلَفُ الْمُجِيزُونَ لِصَيْدِ الْجَوَارِحِ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَنَّ صَيْدَهَا يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَتْ مِنْهُ، مِنْهُمْ سَعْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صَيْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ: «لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْهُ».
وَقَالَ سَلْمَانُ وَسَعْدٌ وَابْنُ عُمَرَ: «يُؤْكَلُ صَيْدُهُ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا ثُلُثُهُ».
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الْكَلْبِ قَبُولُهُ لِلتَّأْدِيبِ فِي تَرْكِ الْأَكْلِ، فَجَائِزٌ أَنْ يُعَلَّمَ تَرْكَهُ وَيَكُونَ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ عَلَمًا لِلتَّعْلِيمِ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ ذَكَاتِهِ وَوُجُودُ الْأَكْلِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ ذَكَاتِهِ.
وَأَمَّا الْبَازِي فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَبَاحَ صَيْدَ جَمِيعِ الْجَوَارِحِ عَلَى شَرْطِ التَّعْلِيمِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ لِلْبَازِي تَرْكُهُ الْأَكْلَ؛ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْلِيمِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَهُ اللَّهُ تَعْلِيمَ مَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّعْلِيمُ وَقَبُولُ التَّأْدِيبِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ تَعَلُّمِ الْبَازِي وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِطِ تَعَلُّمِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُهُ وَيُمْكِنُ تَأْدِيبُهُ بِهِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ فِي حَظْرِ مَا قَتَلَهُ الْبَازِي، مِنْ حَيْثُ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيمِ تَرْكُ الْأَكْلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّيْرِ فَلَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فَلَا يَكُونُ مَا قَتَلَهُ مُذَكًّى.
إلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَكُونَ لِذِكْرِ التَّعْلِيمِ فِي الْجَوَارِحِ مِنْ الطَّيْرِ فَائِدَةٌ؛ إذْ كَانَ صَيْدُهَا غَيْرَ مُذَكًّى، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَمَّمَ الْجَوَارِحَ كُلَّهَا وَشَرَطَ تَعْلِيمَهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكَلْبِ وَبَيْنَ الطَّيْرِ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهَا كُلِّهَا، فَيَكُونُ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ مَا يَكُونُ مُعَلَّمًا، وَكَذَلِكَ مِنْ الْكِلَابِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ وُجُوهُ تَعْلِيمِهَا، فَيَكُونُ مِنْ تَعْلِيمِ الْكِلَابِ وَنَحْوِهَا تَرْكُ الْأَكْلِ، وَمِنْ تَعْلِيمِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ أَنْ يُجِيبَهُ إذَا دَعَاهُ وَيَأْلَفَهُ وَلَا يَنْفِرَ عَنْهُ، حَتَّى يَكُونَ التَّعْلِيمُ عَامًّا فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ.
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ ذَكَاةِ صَيْدِ الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ إمْسَاكِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ إمْسَاكِهِ عَلَيْنَا إلَّا بِتَرْكِ الْأَكْلِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَرْكُ الْأَكْلِ مَشْرُوطًا لَزَالَتْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ الْأَكْلِ عَلَمًا لِإِمْسَاكِهِ عَلَيْنَا وَكَانَ اللَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَنَا أَكْلَ صَيْدِهَا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ مَحْظُورًا.
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ يَأْكُلُ الْبَازِي مِنْهُ وَيَكُونُ مَعَ الْأَكْلِ مُمْسِكًا عَلَيْنَا.
قِيلَ لَهُ: الْإِمْسَاكُ عَلَيْنَا إنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، فَأَمَّا الطَّيْرُ فَلَمْ يَشْرِطْ فِيهِ أَنْ يُمْسِكَهُ عَلَيْنَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ بَدِيًّا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَ الْكَلْبِ عَلَيْنَا أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَأَنَّهُ مَتَى أَكَلَ مِنْهُ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى نَفْسِهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَيْنَا تَرْكُهُ لِلْأَكْلِ؛ فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْإِمْسَاكِ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرَهُ وَلَوْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَتَأَوَّلْهُ عَلَيْهِ، وَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بَيَانُ مَعْنَى الْآيَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا.
وَالثَّانِي: نَصُّ السُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، فَقَالَ: «إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ».
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: «سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ: إذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ.
قُلْت: أُرْسِلُ كَلْبِي؟ قَالَ: إذَا سَمَّيْت فَكُلْ وَإِلَّا فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَقَالَ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ عَلَيْهِ كَلْبًا آخَرَ؟ قَالَ: لَا تَأْكُلْ لِأَنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك»
.
فَثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وَنَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى حَبِيبُ الْمُعَلَّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ: فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك الْكَلْبُ قَالَ: فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؟ قَالَ: وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ».
قِيلَ لَهُ: هَذَا اللَّفْظُ غَلَطٌ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَدْ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ وَأَبُو أَسْمَاءَ وَغَيْرُهُمَا فَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ هَذَا اللَّفْظَ؛ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ كَانَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنْ حَظْرِ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ؛ وَمَتَى وَرَدَ خَبَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا حَظْرُ شَيْءٍ وَفِي الْآخَرِ إبَاحَتُهُ فَخَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَاهُمَا بِالِاسْتِعْمَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ لَهُ، فَهَذَا هُوَ إمْسَاكُهُ عَلَيْنَا.
فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحْبُوسًا بِالْقَتْلِ فَلَا يَحْتَاجُ الْكَلْبُ إلَى أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ، فَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَتْلُهُ هُوَ حَبْسُهُ عَلَيْنَا.
قِيلَ لَهُ: هَذَا أَيْضًا لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا: فَكُلُوا مِمَّا قَتَلْنَ عَلَيْكُمْ؛ وَهَذَا يُسْقِطُ فَائِدَةَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ مَا قَتَلَتْهُ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ}، وَهُوَ يَعْنِي صَيْدَ مَا عَلَّمْنَا مِنْ الْجَوَارِحِ جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ سَأَلَ عَنْ الْمُبَاحِ مِنْهُ.
وَعَلَى أَنَّ الْإِمْسَاكَ لَيْسَ بِعِبَارَةٍ عَنْ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْسِكُهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ، فَلَيْسَ إمْسَاكُهُ عَلَيْنَا إذًا إلَّا أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ.
وَلَا يَخْلُو الْإِمْسَاكُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ حَبْسُهُ إيَّاهُ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ، أَوْ حَبْسُهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ، أَوْ تَرَكَهُ لِلْأَكْلِ مِنْهُ بَعْدَ قَتْلِهِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَبْسَهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حَيٌّ غَيْرُ مَقْتُولٍ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَأَنَّ حَبْسَهُ عَلَيْنَا حَيًّا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا قَتَلَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَبْسَهُ عَلَيْنَا بَعْدَ قَتْلِهِ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إمْسَاكَهُ عَلَيْنَا شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يَحْبِسْهُ عَلَيْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ؛ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ تَرْكُهُ الْأَكْلَ.